أحمد شهاب
يميل عامة المسلمين إلى الاحتماء بماضيهم الذي صنعه غيرهم، بخاصة أن جانبا كبيرا من الحضارة والممارسة الإسلامية تستحق الفخر والاعتزاز، ويحتوي التاريخ الإسلامي على نماذج مُشرقة لا يمكن لأي باحث موضوعي أن يتنكر لأهميتها وجمالها، وهم في النتيجة قدموا للإسلام الشيء الكثير، ما يمكن تدوينه في مجلدات كثيرة، فمنهم من أثرى العلوم الإسلامية بفكره وماله وإمكاناته، ومنهم من قدم تجربة حكم رائدة أساسها العدل والإنصاف، ومنهم من ضحى بماله أو نفسه حماية لقيم الدين ومبادئه الإنسانية.
لكن على الرغم من هذه الذخيرة كلها، فإن المسلمين لم يحسنوا الاستفادة من تاريخهم، إلا في تحقيق انتصارات وهمية بعضهم على بعض، أو للهروب من واقعهم البائس، أو لاستثماره في تعزيز توجهاتهم، انظر مثلا إلى حال أبطال مواقع الإنترنت الذين يملأهم الزهو عند تحقيق انتصارات في صراعاتهم حول رجال التاريخ وأبطاله وأحداثه، أو أبطال الشاشات الذين يصرون على أنهم أنجزوا شيئا عظيما في جدل مذهبي محموم كل طرف يدعي أنه انتصر فيه، وهم لا يعرفون أن أبطال الإسلام استهلكوا وقتهم في ما يرضي الله، وما يُفيد الناس، لا في الصراع حول أعمال وإنجازات من سبقهم.
ولذلك اتصفت الثقافة العربية والإسلامية المعاصرة عموما بالثبات، لأنها ظلت محملة بأعباء التراث، وهو الأمر الذي أسهم في انتشار التدين الشكلي، وتراجع التدين الحضاري، وستجد العشرات، بل المئات ممن لا تربطهم بهموم المسلمين ومآسيهم أي علاقة تذكر، لكنهم يُستثارون غضبا أو طربا عند الحديث حول موقف تاريخي، أو عن أحد رجالات الزمن الماضي.
اكتشاف الذات أولاً
من الطبيعي أن يستمر المسلمون بالتساؤل عن سر تخلف واقعهم، في الوقت الذي تحقق الأمم الأخرى تقدما بصورة ملموسة إلى الأمام، ذلك السؤال الإشكالي الذي طرحه الأمير شكيب أرسلان في مطلع القرن العشرين، ولاتزال أصداؤه تتردد حتى الآن من دون الحصول على إجابة وافية.
والمهمومون للتوصل إلى إجابة عن هذا التساؤل كثيرون، وقد سال حبر كثير في هذا المضمار، ومازال الأمر يستحق منا التفكير والتأمل، لأنني من جملة الذين يعتقدون أننا لن نستطيع الخروج من شرنقة التخلف، إذا لم نستطع التوصل إلى نتيجة متفق عليها حول علة التخلف، أو على الأقل إلى نتيجة مقنعة وموضوعية في الأمر؟
ومن نافلة القول أن المسلمين الذين نتحدث عنهم هم “المسلمون العرب” في الدرجة الأولى، أما المسلمون من غير العرب، فالأمر يتفاوت بالدرجة، لأني أميل إلى أن بعض المسلمين من غير العرب، استطاعوا أن يتلمسوا الإجابة عمليا ونظريا عن سؤال التقدم، ويمكن اعتبارهم في بداية الطريق لتحرير أنفسهم من ربقة التخلف، ومثاله الأنموذج الماليزي، أما المسلمون العرب، فلا يزالون يبحثون عن الجواب من دون نتيجة تذكر، ومثاله للأسف كل العرب.
الإجابة التي قدمها المسلمون من غير العرب بسيطة في ظاهرها، لكنها عميقة في جوهرها، وتتلخص في أن طريق التقدم تبدأ “باكتشاف الذات أولا” في الزمن الذين يعيشون فيه الآن، وعدم الاستغراق في التاريخ، أو صياغة الحاضر بإملاءات الماضي، مهما كان ذلك الماضي جميلا ومتألقا، ثم تأتي تاليا خطوة الاستفادة من العلل والسنن التي جرت في زمن الآخرين، واستخلاص الدروس والعبر من أجل الحاضر، ولا يعني ذلك قطيعة مع الماضي، أو انفصالا عن سننه وعبره، وإنما قراءته بموضوعية وعدم العيش أسرى فيه.
ما أثبته الماليزيون
إن الدعوى التي ينادي بها البعض حول ضرورة إحداث قطيعة معرفية بين التراث والتحديث، ليست ذات اعتبار بالضرورة، فهي وإن كانت جاءت كضرورة في الغرب، نظرا لطبيعة تراثهم وتاريخهم ودينهم، فإنها ليست كذلك بالنسبة إلى دين المسلمين وتراثهم، لأننا نعتقد أن الإسلام لا يقف على الضد من الحضارة، وأن التراث لا يتناقض بالضرورة مع التحديث. وقد أثبت الماليزيون في تجربتهم الرائدة أن التراث يمكن أن يشكل عامل دعم وتحريض للنهوض، من خلال التركيز على الإمكانات الحضارية التي يتضمنها ذلك التراث، بدلا من الصراع حول أحداثه، وقد نجح القادة الماليزيون في إسقاط مشاريع أولئك الذين أرادوا أن يحولوا التراث إلى مادة لتأجيج الصراعات والأزمات المستمرة بين الفرقاء في الساحة الماليزية، وقدموه كمولد ومحفز حضاري وثقافي، وأعطت ماليزيا باقي المسلمين درسا بليغا في كيفية تحويل تراثها من عائق إلى محفز للنهضة.
وفي صدد شرحه لأبعاد مشروع الإسلام الحضاري يقول عبدالله بدوي “نريد أن نبين أن بوسعنا نحن المسلمين -إذا كنا نفهم ديننا حق الفهم- أن نعزز الحضارة الإسلامية ... ولا يقتصر المشروع على تحسين نظرة العالم للإسلام؛ فهو ليس تحسينا لمظهر ديننا، بل يهدف إلى تحقيق التفوق والمجد والتميز”، وتوضح عموم التجربة الماليزية أن التراث والدين يمكن أن يكونا عامل تأخر وتخلف، ويمكن أن يكونا عامل تقدم وحضور، والمسألة تقع على عاتق المتصدين لهذا الأمر.
الخطوة المقبلة
لقد أثبتت التجارب العديدة، وبما لا يدع مجالا للشك، أن كل محاولات تهميش التراث الإسلامي، أو إلغاءه باءت بالفشل، وانتهت جهود حكام وسلاطين عند محاربتهم لأحداث وحقائق التاريخ إلى الفشل التام، وانتهت دُول، ومضى حُكام، ولم تنته علاقة الناس بجذورهم ودينهم وماضيهم، بل أقول أكثر من ذلك، إن المحاولات القسرية التي يبذلها البعض لإبعاد الناس عن ماضيهم، تدفعهم للاحتماء بذلك التاريخ أكثر، وكلما ازداد الضغط، ازداد إيمان الناس بأنهم على حق، ورجعوا إلى ما منعوا عنه.
وعليه فإن الخطوة السليمة تتلخص في القدرة على جعل المشاعر الإسلامية، والتراث الديني جزءا من عملية التحديث لا خارجه، وفي القدرة على استيعاب المؤسسات الأهلية والدينية التقليدية لأخذ دورها في عملية التطوير، عبر استيعاب متطلبات الواقع، أو تغذيته بأغنى وأنفس ما في التراث والعصر معا، بدلا من معاداتها وعزلها، فهي تظل المنبر الأكثر حضورا وتأثيرا في وجدان الناس، والأقدر على تحريضهم نحو الآفاق الجديدة.