مرآة البحرين (خاص): ما ترك "الخداع" للحكم في البحرين من صديق. كان هذا هو التقدير: مبادرة ذاتية يقدمها إلى المفوضية السامية لحقوق الإنسان بدعوتها إلى المجيء إلى البحرين والاطلاع على الأجواء عن قرب، كفيلة بإشاعة انطباع ساحر مفاده، ثقتنا بنفسنا. لكن نعرف الآن، أن السحر انقلب على الساحر. هذا طقم من المعلومات يضعه طاقم "مرآة البحرين" بين يدي القاريء لأول مرة، عطْفاً على التصريح الذي أدلت به اليوم المفوضية السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة نافي بلاي، القوي، والصريح بلا اعتبارات في وجه النظام البحريني الذي غدت أوراقه مكشوفة. وقد تأخرنا في نشرها لاعتبارات ستتضح تباعاً في ثنايا هذا التقرير.
في الحقيقة، لم تكن هذه هي الصورة في اليومين الأولين لزيارة فريق المفوضية السامية الأسبوع الماضي برئاسة مدير قسم مجلس حقوق الإنسان والإجراءات الخاصة بكر نداي. على العكس، فقد كان لقاء الفريق مع الجمعيات السياسية عصر يوم الأربعاء 14 ديسمبر/ كانون الأول محبطاً، ليس ذلك فقط، بل محبطاً جداً.
وقد أسرّ عن جانب من ذلك أمين عام "التجمع الوطني الوحدوي" فاضل عباس في بعض تغريداته على حسابه في "تويتر" فجر يوم الخميس 15 ديسمبر/ كانون الأول. حتى أنه صرح ب"خروجه من الغرفة التي كان يجري فيها لقاء الجمعيات مع فريق المفوضية"، قبل أن يعود ويضع "فرملة" على تغريداته، مبتعداً عن "ذكر أية أسباب لذلك".
وقد طالبه بعض النشطاء، وربما بعض من زملائه في الجمعيات، بأن يبقي ما يدور في الغرف المغلقة داخل الغرف المغلقة. لكن من جهتنا في "مرآة البحرين" فقد كان ذلك بداية الخيط لنا. وقد تواصلنا مع بعض المصادر في الجمعيات، واستطعنا بصعوبة، جمع أشتات الصورة كاملة. قمنا بإعداد تقرير مفصل عن ما دار من مجريات غضون اللقاء، وكنا بصدد نشره في وقت متأخر من يوم الخميس. ثم تراجعنا في اللحظات الأخيرة.
التريث بعض الوقت
كان تقديرنا للتراجع عن النشر، هو التالي: إن ذلك كان هو اليوم الأول لفريق المفوضية. دعنا نتريث قليلاً، ونرى، فربما تغيرت الصورة. وكان الاعتبار الثاني، وهو الأهم، أن اليوم الموالي كان يصادف انطلاق الفعالية التي أعلنت عنها حركة شباب 14 فبراير/ شباط الموسومة ب"احتلال شارع البديع". وأن كثيراً من زخم الاحتجاج الذي جرت التعبئة له من أجل هذه الفعالية، كان يعول على تواجد فريق المفوضية السامية، وأن السلطة ربما - نقول.. ربما - تراجعت عن قمعها، جرياً مع ما حصل في الاعتصام يوم 14 ديسمبر/ كانون الأول أمام مبنى الأمم المتحدة بعد يوم من وصول فريق المفوضية، والذي يعد الاعتصام الأول في قلب العاصمة (المنامة) منذ 17 مارس/ آذار.
كان نشرنا له - هكذا قدرنا - سيشيع أجواءً من الإحباط، وربما أثر سلباً أو أعطى إشارة نفسية محبطة، تبعاً لما دار في ثنايا اللقاء. قررنا عدم النشر، وحين راجعنا الأمر بعد يومين، قررنا عدم نشره نهائياً.
الآن نعرف، أن الصورة تغيرت بكيفية دراماتيكية. وأن الشعور المحبط الذي لمسه عدد من قيادات الجمعيات المعارضة التي تواجدت في الاجتماع مع فريق المفوضية، انقلب اليوم، أو ربما قبل ذلك - كما سيتضح - عكسياً، مع تصريح المفوضة السامية نافي بيلاي اليوم، والذي جاء ليحاكي مطالب المحتجين.
ماذا حصل؟
لنقف بداية عند وقائع ما دار في اجتماع الجمعيات السياسية - ويمكن مراجعة الحاضرين في اللقاء بشأن دقة ما سنورده - مع وفد المفوضية في اللقاء الذي دام حوالي الساعتين والنصف (من الساعة 5 إلى 7 ونصف مساءً)، الذي ناب في التحدث فيه رئيس قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فرج فنيش، فيما لم يتحدث رئيسه نداي، إلا لماماً، وكذلك البقية، وهم الآنسة أغنيس بيكود ومحمد حوجيج، وهما ضابطان مسئولان عن حقوق الانسان لدى المفوضية. وذلك من أجل معرفة ما حصل، وكيف ولماذا (؟) تغير بعد ذلك الموقف كلية.
وهنا سننقل مقتطفات من التقرير - طبقاً، كما وردت فيه من دون أي تحرير - الذي أعددناه وقتئذ وامتنعنا عن نشره. فقد "فاجأ فريق المفوضية السامية لحقوق الإنسان الذي بدأ زيارته إلى البحرين أمس (13 ديسمبر/ كانون الأول)، الجمعيات السياسية بقوله إن برنامج الوفد لن يشمل زيارة المعتقلين السياسيين في السجون، وليس من مهامه التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان، ولا حتى النظر فيما إذا كان الوضع في البحرين يحتاج إلى إرسال لجنة أممية".
وقالت مصادر مطلعة ل"مرآة البحرين" إن "الوفد رفض حتى إطلاع المعارضة على الهدف من الزيارة أو المهمة التي ابتعث لأجلها أو الاستجابة إلى مطالبها أو حتى الاتفاق معها على أية أجندة"، فيما بدا من جانب آخر "متفهماً تماماً لموقف السلطة، حيث أظهر المحاباة الكاملة لها". ومما نقل أن أحد أعضاء الفريق - قمنا برفع اسمه - أظهر ليونة غريبة حيال السلطة لا تليق بحقوقي، وقد اعتبر أن "زيارة فريق المفوضية تأتي في إطار زيارة سابقة كان من المزمع القيام بها، وقد تأخرت، وأنهم يقومون بها الآن، وهي لا تزيد عن ذلك".
وأضاف رداً على سؤال بشأن إمكانية تدخل المفوضية بخصوص المعتقلين السياسيين، خصوصاً المحتجزين في سجن جو، حيث يعيشون أوضاعاً مزرية "إن هذا ليس من اختصاصنا، ولن نزور السجناء". ورداً على مداخلة أخرى بشأن كيفية تعاطي النظام البحريني مع مطالب المعارضة، علق "إن موقف النظام مريح، وهو يستطيع المواصلة بهذه الطريقة".
تلك كانت الأجواء في لقاء الجمعيات السياسية مع بعثة المفوضية السامية، وهي تفسر - مثلما صرنا نعرف الآن - بعض الانطباعات التي تم التعبير عنها على شبكات التواصل الاجتماعي، قبل أن تضيع في زحمة ما تمخض عنه ذلك اليوم 17 ديسمبر/ كانون الأول نتيجة لقمع السلطة المفرط، والذي أسفر عن سقوط الشهيد الشاب علي القصاب.
فما الذي تغير؟
يكشف مصدر حقوقي عربي ل"مرآة البحرين" على صلة وثيقة بعمل المنظمات الدولية وأجوائها الداخلية أن عاملين لعبا بشكل كبير في تغيير قناعات فريق المفوضية، وكلاهما تسببت فيه السلطة. الأول، هو "محاولة السلطة اتباع السياسة نفسها التي اتبعتها مع اللجنة الملكية لتقصي الحقائق برئاسة المحقق المصري محمود شريف بسيوني، وهي المحاولة الصريحة لرشوتهم، وهو الأمر الذي فاجأ الفريق، وأكد لديهم صحة الاتهامات التي ساقتها المعارضة، ووصلت خفراً إلى آذان المفوضية، بشأن قيام الحكم في البحرين بإغراق بعض أفراد لجنة بسيوني بالرشى".
في حين أن جزءاً كبيراً من الصورة التي أتى بها الفريق، وأسس عليها مواقفه "الإيجابية" تأتّى من خلال ما بعثه قبول السلطة بتوصيات اللجنة، من ارتياح لدى المفوضية، وأن مهمة الفريق، لذلك، (كانت) ستكون مريحة. خصوصاً وأن السلطة هي نفسها من بادر إلى دعوته بالمجيء إلى البحرين. ما أوحى بثقة كبيرة في النفس، وأن البحرين مقبلة على تغييرات جدية.
ويقول المصدر "إن وكيل وزارة حقوق الانسان والتنمية الاجتماعية سعيد الفيحاني هو من تصدى لمحاولات رشوة الوفد الصريحة بإيعاز من الحكومة البحرينية"، مضيفاً بأنه "حين لقى موقفاً صارماً من الوفد، وتهديده برفع الأمر إلى جهات عليا في المفوضية السامية، بادر إلى إدخال إيضاحات على موقفه وأنه قصد بذلك، التعاون مع فريق المفوضية من أجل تنفيذ دورات تدريبية في مجال حقوق الإنسان".
وهو السلوك نفسه الذي اتبعته وزارة الداخلية من أجل احتواء فريق بسيوني. غير أن فريق المفوضية كان متنبهاً إلى ذلك، وقد رد بشكل صريح "إن التدريب والدورات والورش، كل ذلك يأتي لاحقاً، بعد أن تقوموا بتحقيق شيء ملموس على الأرض".
يضاف إلى ذلك، ما لحظه الفريق من قيام السلطات البحرينية بتعقب الوفد بشكل دائم من قبل عناصر من المخابرات المدنية، وإبقاء جميع تحركاتهم تحت المراقبة. حتى أن الفريق، يتابع المصدر "لم يكن يثق باستخدام خطوط الهاتف المحلي ليقينه بأنها مراقبة. وكان يقوم باللقاءات مع المتضررين ونشطاء المجتمع المدني خلف أبواب مغلقة في فندق الدبلومات (راديسون ساس) مع الحرص على إبقاء الهواتف مغلقة".
قمع مفرط في وجود فريق المفوضية
ويواصل المصدر "إن العامل الآخر الذي أثر في موقف فريق المفوضية، هو ما شاهده بعض أعضائه بأم العين من صور للقمع المفرط الذي قوبل به المحتجون، فيما لم يكن قد غادر البحرين بعد، حتى أن بعض أعضائه عد ذلك إهانة له". وقال "إن الصور والمقاطع الفيديو التي صورها النشطاء لما حصل منذ يوم 15 ديسمبر/ كانون الأول، واستمرار تدفقها حتى يوم مغادرة الفريق للبحرين (17 ديسمبر/ كانون الأول)، والتي تلقفتها وكالات الأنباء العالمية، لعبت بشكل كبير، في تشكيل قناعة لدى الوفد أن حكومة البحرين تريد شراء الوقت فقط، وهي ليست جادة في استحداث أية إصلاحات، لا سيما في مجال حقوق الإنسان".
وحين التقى وفد من جمعية "الوفاق" الوطني الإسلامية في جنيف بسويسرا يوم السبت، برئاسة أمين عام "الوفاق" الشيخ علي سلمان فريق المفوضية العائد تواً من المنامة، حيث كان بانتظاره، كانت الصورة لدى الفريق واضحة تماماً بشأن الحالة في البحرين. وقد خرج وفد المعارضة بانطباع إيجابي - وفق ما أكدت ذلك مصادر مختلفة - على خلاف من الانطباع الأولي الذي استشعره وفد الجمعيات لدى اللقاء بالفريق أول مرة.
يلتقط المصدر خيط الحديث ثانية "إن كل ذلك قد لعب بشكل كبير في مجيء كلمة المفوضة السامية لحقوق الإنسان بلاي اليوم، بمثابة الصفعة في وجه الحكومة البحرينية، والتي اعتبرت فيها أن.. الإفلات من العقاب هي حالة سائدة في البحرين". وفي تعليقه على ذلك، قال المصدر "التصريح قوي وصريح، ويفند مراهنات الحكومة على استمالة أعضاء الوفد". وأضاف "أعرف جازماً أن رئيس الوفد بكر (نداي) هو مهني نزيه، و لم تنطل عليه الرواية الحكومية التي اجتهدت كثيراً في عملية ليّ يد الحقيقة" على ما عبر.
المصدر: مرآة البحرين