16 يناير، 2012

البحرين ما بعد بسيوني: تفويت الفرصة


بدر الإبراهيم (كاتب سعودي)

رغم كل الملاحظات على لجنة البروفيسور شريف بسيوني، والأسئلة حول استقلاليتها على خلفية تعيينها من قبل السلطة البحرينية، ورغم خروج الرجل على قواعد عمله وتقديمه «فتاوى سياسية» في وسائل الإعلام المختلفة، بعد ظهور تقريره، متجاوزاً مهمة التحقيق التي جاء من أجلها وضارباً بمهنيته وموضوعيته التي يحتاج إلى كل ذرة منها في مثل هذا الوضع عرض الحائط، فإنّ الرجل فجّر قنبلة في وجه السلطة حين نسف ادعاءاتها حول ارتباط الحراك الشعبي البحريني بإيران. وهي الادعاءات التي ارتكز عليها النظام في تحريضه على المعارضة والمتظاهرين، وبرر بها جلب قوات درع الجزيرة إلى البلاد، والأهم أنّه نجح من خلالها في خلق حالة عدائية للثورة البحرينية خليجياً باستخدام الورقة الطائفية.

ظن كثيرون أنّ تقرير لجنة بسيوني سيفتح المجال أمام مخرج لائق من الأزمة للسلطة والمعارضة، وأنّ عمل اللجنة التي شكّلت بضغوط غربية وأميركية بالتحديد سيكون مقدمة لحوار سياسي حقيقي ينتج تسوية ترضي الجميع. وبدا أنّ الأميركيين الذين يقيم أسطولهم الخامس في البحرين، منزعجون من إدارة السلطة البحرينية للأزمة، وراغبون في حل يؤمن الاستقرار في الجزيرة الخليجية الصغيرة. لكن ما حصل أنّ السلطة لم تقدم جديداً، وأنّ الأميركيين لم يفعلوا الكثير، مستمرين في تمييزهم بين ملفات الربيع العربي (حيث يتدخلون بقوة في سوريا ويحرصون على الوضع المصري ويغضّون الطرف عما يحصل في اليمن والبحرين) وفي انشغالهم بالانسحاب من المنطقة عسكرياً، وحل المعضلة الأفغانية والأزمة الاقتصادية.

بعد التقرير، قام الملك البحريني بإقالة مسؤول الأمن الوطني خليفة بن عبد الله آل خليفة، وعيّنه في الوقت ذاته أميناً عاماً للمجلس الأعلى للدفاع، ومستشاراً ملكياً بمرتبة وزير. وأظهرت هذه الخطوة أنّ التوقعات بتقديم أكباش فداء من المسؤولين الصغار باعتبارهم مسؤولين عن الجرائم التي ارتكبت في غير محلها أيضاً، وأنّ استفزاز الناس قائم ومستمر بتكريم من ساهموا مباشرة في انتهاك حقوقهم والاعتداء عليهم. كما أنّ القمع استمر وقتل المتظاهرين والأطفال منهم استمر أيضاً، مما عزز فرضية انتصار الصقور على الحمائم داخل النظام البحريني.


تنطلق الفرضية من الاعتقاد بوجود تباينات بين أركان النظام حول الطريقة المثلى لمقاربة ملف الاحتجاجات. فولي العهد تحديداً يرى أنّ الإصلاح ضروري، ويصرّح بين فترة وأخرى أنّ المنطقة كلّها مقبلة على عهد جديد. ويبدو أنّه يرى عدم قدرته على حكم البلاد مستقبلاً، في ظل هذا الوضع السيئ، وأنّ تأمين مستقبله السياسي يكون عبر إيجاد صيغة ما للتفاهم (ليست بالضرورة استجابة كاملة لمطالب المحتجين) مع المعارضة والشارع الثائر.

لكن في مقابل ولي العهد هناك الجناح المتشدد ذو الرؤوس الثلاثة: وزير الديوان الملكي خالد بن أحمد، وشقيقه وزير الدفاع خليفة بن أحمد، ورئيس الوزراء خليفة بن سلمان الذي تطالب التظاهرات بإقالته. يبدو أنّ هذا الجناح أحكم قبضته على البحرين، وأفشل مبادرة ولي العهد. وبعد السادس عشر من آذار / مارس (تاريخ دخول قوات درع الجزيرة)، قام هذا الجناح بالإطباق على كل مفاصل السلطة. ولأنّ عقليته أمنية في معالجة الأمور، قام بحملة أمنية في غاية البشاعة ضد الناس، وكانت التوقعات أن يقدم الملك على تحجيم هذا الجناح وإنهاء نفوذه عبر قرارات شجاعة يتخذها متسلحاً بتقرير بسيوني، لكنّه في ما يبدو فوّت الفرصة.

تلك التقسيمات ــ إن صحت أصلاًــ لم تعد تعني الكثير للمنتفضين على بطش النظام، فهم اليوم أقرب إلى اعتبار كل أجنحة النظام جناحاً واحداً. ولم تعد المعارضة السياسية، ممثلة بجمعية الوفاق والجمعيات الحليفة، قادرة على ضبط شعارات الشارع بخصوص إصلاح النظام وإسقاط الحكومة فقط. فشعارات إسقاط النظام تتردد بقوة أكبر كل يوم مع تواصل الاستفزاز والممارسات القمعية، وهذا كلّه يحدث على خلفية انقسام مذهبي خطير يغذيه النظام ويستفيد منه.

نجح النظام في أمرين أساسيين: الأول هو التعتيم الإعلامي على ما يحدث عبر الاستفادة من صمت الإعلام الممول خليجياً عن انتهاكات حقوق الإنسان هناك، بل وتقديم معظم هذا الإعلام لوجهة نظر النظام. ولولا فيلم الجزيرة الانكليزية «صراخ في الظلام»، لما عرف كثيرون بحجم الممارسات القمعية التي أظهر البرنامج الوثائقي جزءاً منها. أما الأمر الثاني والأهم، فهو اللعب على المسألة المذهبية وتحريض السنّة على الشيعة، وتخويفهم من دولة ولاية الفقيه في حال التحوّل إلى ملكية دستورية، واستثمار الاستيعاب التاريخي لأبناء الطائفة السنيّة في مؤسسات الدولة، بالترويج لفكرة حماية النظام للسنّة من الشيعة وإيران (وهي فكرة تروج في بلدان أخرى يشكل فيها الشيعة أقلية!). وكذلك توظيف عدد من الشخصيات السنيّة لشد العصب المذهبي والحشد ضد التحرك الشعبي ومطالب التغيير بوصفها مطالب شيعية.

لعل المعارضة والناشطين البحرينيين الشباب (الذين بدأوا الثورة وقادوا الاحتجاجات في الشارع) نجحوا في تحصيل دعم وسائل إعلام غربية كبرى ومنظمات حقوقية وكسب تعاطف غربي مع قضيتهم لم يجدوه عند العرب، لكنّهم لم يتمكنوا من إحداث خرق في الجدار السميك الذي بناه النظام ليفصلهم عن السنّة البحرينيين. وهم رغم كل الظروف التاريخية والموضوعية التي صنعت الاصطفاف القائم مطالبون بالاستمرار في تقديم تطمينات تريح الجانب السنّي قدر الإمكان، وبالعمل على إيجاد صيغة ما (لعل وثيقة المنامة هي الأفضل وتحتاج إلى مزيد من الترويج لها) تحقق هذا الخرق وتسهم في تكوين كتلة وطنية على أساس مطالب إصلاحية محددة، يتم التوافق عليها لإخراج البلاد من الأزمة.

في المشهد انسداد للأفق السياسي مفتوح على احتمالات عديدة، وتصاعد للحالة الطائفية يعيق التغيير، وشارعٌ مستنفر يواصل الانتفاض بشجاعة وبسالة مدهشة ضد النظام منذ سنة، محافظاً على سلمية التحرك. كذلك، نجد عقلاً سياسياً غائباً في السلطة لمصلحة العقل الأمني، ورفضاً خارجياً لتسوية تاريخية تقدم نموذجاً إصلاحياً حقيقياً في الخليج، وتمدداً للأزمة الطائفية في الخليج واستثمارها في تأجيج صراعات فئوية واجتماعية تخرج الخليجيين من سياق اللحظة التاريخية للربيع العربي.

حين يكون الانقسام الاجتماعي بهذه الحدة، فإنّ على النظام أن يقلق كثيراً، فهو وإن كان مستفيداً من تعميق الشرخ لحماية نفسه من مطالب التغيير عبر الفتنة المذهبية، فإنّه إذا ما انجرفت البلاد نحو الأسوأ سيدفع الثمن غالياً. وتماماً كحال النظامين السوري واليمني، سيقع النظام البحريني في شر أعماله، ويغرق في المستنقع الذي عمل على إغراق الناس فيه، طمعاً في إبقاء الوضع القائم، وما لا تفهمه تلك الأنظمة أنّ الدفع باتجاه الفتنة لن يستثنيها هي من الغرق في نهاية المطاف. ما لا يدركه النظام أيضاً أنّ تواصل الفعل الاحتجاجي يشير إلى عدم قدرة الحل الأمني على تأمين الاستقرار الكامل، وأنّه يفشل في إبقاء الوضع كما هو عليه، إذ لن يتمكن، رغم بقائه وعدم تغيّره، من السيطرة على البلاد كما في السابق. ولن تكون الإصلاحات الشكلية المترافقة مع استمرار العمل الأمني، مرضية للناس الذين عانوا من سنة أليمة وهم غير راغبين في العودة إلى ما قبل الرابع عشر من شباط/ فبراير.

لا استقرار دون حل سياسي، وهذا الحل سيكون في مصلحة الجميع. والمطلوب من النظام في ظل واقع اجتماعي منقسم بحدّة أن يقوم هو بقيادة عملية التغيير والإصلاح، ليس لعشقه للتحوّل الديموقراطي، بل لحاجته إليه ليستمر في حكم البلاد ويثبت شرعيته. السؤال هو: هل يدرك أحد من هذا النظام أو من داعميه الحاجة؟


المصدر: جريدة الأخبار
http://www.al-akhbar.com/node/29603

ليست هناك تعليقات: