22 يوليو، 2012

الأشياء الساذجة


ياسر حارب

في طريقنا من المدرسة إلى البيت فاجأني طفلي سعيد بهذا السؤال: "بابا هل سأدخل النار؟" صمتُ للحظات من هول الصدمة، ثم سألته عن سبب سؤاله فقال:

"لأن أبا صديقي قال له بأن الاحتفال بالعيد الوطني حرام وسوف يعاقب الله كل من فعل ذلك" فسألته عمّن سيدخل النار في رأيه، فقال: "الأشرار الذين لا يحبون الله" ثم سألته إن كان يُحب الله أم لا فقال لي: "نعم أحبه لأنه أعطاني كل شيء، ولذلك أحاول أن أحفظ القرآن" فقلتُ له: "إن كنتَ تُحبه إلى هذا الحد فإنه يحبك أيضاً، وكُل من يحبهم الله يدخلون الجنة".


أحب سذاجة الأطفال وتلهمني كثيراً في طريقة تفاعلي مع الحياة، ولكنني أتساءل: لماذا يفكّرون، وهم في هذه السن المبكّرة جداً، في الجنة والنار! ولماذا يقلقون من الثواب الأخروي أو العقاب! ومَن سَلَب من أطفالنا سذاجتهم البريئة؟ وكيف استدرجهم المجتمع في صراعاته الطائفية والدينية التي باتت تفرض علينا الاصطفاف مع إحدى الفِرَق.

والتخندق مع أفكارٍ معينة ثم تدفعنا للاستماتة في تبريرها والدفاع عنها، حتى ونحن نجهل مغزاها في بعض الأحيان، ثم نصل في نهاية كل حوار إلى تقسيم الناس بين الجنة والنار. لا أعرف لماذا تأزّمت عقولنا في السنوات الأخيرة فصارت أكثر تشنّجا عن ذي قبل، وصارت الأنفس أكثر ريبة، وأصبحت الأرواح أكثر قلقاً!

هل لأننا صرنا أكثر معرفة بالماديات وأقل علماً بالروحانيات؟ هل لأننا بتنا نفهم في السياسة أكثر من الأدب؟ وفي المال أكثر من الصحة؟ وصرنا نأخذ أكثر مما نُعطي؟ ونبني كل شيء من أجل الإنسان ونسينا أن نبني الإنسان نفسه؟ أعترف لكم بأنني لا أعرف الإجابة الصحيحة.

ولكنني موقنٌ بأن هذا وقت الأسئلة الصحيحة. الأسئلة التي يجهلها بعضنا، ويخشاها بعضنا الآخر حتى لا يصنّفوا بأنهم سُذّج. ولكن، ما هي السذاجة حقاً؟ هل هي الإيمان بأن المَدافع قادرة على تحقيق مصالح البشر؟ أم أنها القناعة بأن الحب والسلام سينتصران في النهاية؟ أم أنها الحيرة بينهما؟

هناك طقسٌ تأملّي يُمارس في بعض المعتقدات الشرقية يسمّى "اللا حُكْم". يدرّب الشخص نفسه من خلاله على عدم الحكم على الأشياء، عن طريق الصمت والخلوة. حيث يجلس، في بداية تعلّم الطقس، لمدة نصف ساعة في اليوم دون أن يقول أو يفعل شيئاً، وكلما عنّت له فكرة في رأسه يدفعها خارجه، وكلما رأى أو فكّر في شيء فإنه يحاول قدر المستطاع ألا يُطلق حكمه عليه.

 حتى يستطيع، بعد سنوات من التدريب والممارسة، أن يصل إلى أقصى مرحلة من اللا حُكْم؛ لدرجة أنه يمكنه أن يرى شيئاً لونه أحمر ولكنه لا يحكم عليه بأنه أحمر، بل يراه كما هو، شيء مجرّد من كل الصفات وقائم بذاته، وهذه تُسمى مرحلة الخلاص العُليا، وأحب أن أسميها "مرحلة التسامح العُليا".

فالحكم على الناس وعلى الأشياء يجعلك، كما يقول ديباك شوبرا، في حالة تحليل وتقييم دائمة، فتنهك نفسك وتضيع جهدك مما يفقدك القدرة على الوصول إلى ذاتك الحقيقية. وأتساءل هنا: ما الفائدة التي سيجنيها أحدنا في محاولته الحكم على أناس لن يضطر للتعامل معهم أبداً؟ وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بالدين؛ فكيف لأحدنا أن "يُجزِمَ" بأن فلان سيعاقبه الله لأنه مُبْتَدِع! وهل مطلوبٌ منا فعل ذلك؟

يُحكى أنه عندما دخل المذياع إلى الجزيرة العربية ظهرت فتوى بتحريمه، وفي أحد الأيام قال أحد رواد المسجد لإمامه بأنه كسر في ذلك اليوم سبعة أجهزة مذياع؛ فبشّره بالجنة. أتساءل اليوم: ما هو الحكم الشرعي للاستماع إلى المذياع؟

نحتاج أن نُمارس السذاجة أحياناً إن كانت تعني تغاضينا عن كل ما يقلقلنا، ويُنهكنا، ويُمرضنا، ويُحزننا دون سبب حقيقي أو مناسبة تستحق. فبعض الأشياء الساذجة هي أكثر أشياء الحياة رسوخا، كذكريات الطفولة، وكمحاولة البعد عن السياسة، وكقراءة روايات الحُب والأمل.

قال لي أحدهم: "أليس من الحماقة أن تتحدث حول الأشياء الساذجة كالحب والتسامح" فقلت له: "إن من بعض أشكال الحماقة ألا يكون المرء ساذجا". فلقد كان من سذاجة أجاثا كريستي أنها تهرع إلى غسل الصحون كلما أرادت أن تكتب؛ فتلك كانت طريقتها في الحصول على إلهام، أما همنغواي فلقد كان يُبري الأقلام حتى يزوره طيف الكتابة. رُدّوا على أطفالنا سذاجتهم، وامنحونا شيئاً منها حتى نحيا بسلام، وتذكروا أن الله وحده يعرف الحقيقة كاملة.

ليست هناك تعليقات: