مرآة البحرين (خاص): كان في طريقه إلى إحدى الصيدليات لشراء دواء لابنه هادي -ذي الأشهر- المختنق بسبب طلقات المسيّل للدموع، حين قبض عليه في إحدى النقاط الأمنية، وتم ضربه حتى تذوّق الموت، كما تذوقه "هادي" الذي استمرّ في البكاء ومكافحة الاختناق جراء تلك الغازات السامة. لقد كان يومها عيد الفطر، هكذا أحيت عائلة الشاب (هاني عبدالله القميش- 28 سنة) عيدها، كحال كل أهل قرية "الخارجية" الستراوية، التي افتتحت صباح العيد باستشهاد الطفل علي الشيخ بطلقة مسيّل دموع أصابت رقبته، أما هاني فقضى أربعة أشهر في المعتقل بتهمة التجمهر. بعد ثلاثة أيام فقط من الإفراج عنه (أفرج عنه يوم الخميس التاسع والعشرين من ديسمبر الفائت)، خرج هاني القميش من منزله لمشاركة أهالي منطقته سترة وداع فقيدهم "الشهيد سيد هاشم سعيد" والذي أودت به طلقة مسيّل دموع أصابت رقبته. هاهو القميش وسط المشيّعين، يداه تصعدان إلى السماء بهتافات الظلامة والمرارة التي تذوقها طوال حياته، لم تكن الأربعة أشهر التي قضاها في السجن دون أي جرم أو ذنب اقترفه بعيداً عن عروسته وابنه الذي لم يتجاوز الأشهر الستة حينها إلاّ فصلاً من فصول تلك المعاناة والشعور بالظلم والألم.
في العام 2006م، تخرّج القميش من جامعة البحرين بشهادة البكالوريوس في "التربية الرياضية"، حمل شهادته الغضّة وجال بها في أروقة وزارة التربية والتعليم، (الوزارة التي وظفت مؤخراً 2600 أغلبهم من حملة شهادة الثانوية العامّة لأنهم تطوّعوا أيام الإضراب عن العمل للدوام في الوزارة)، ومنها إلى 20 وزارة حكومية وفق ما يذكر أحد زملائه.
طوال عامين من رحلة التنقّل بين الوزارات والإدارات بشأن شهادته التي كانت تتآكل، وكانت تدوسها وتمزقها كل يوم آلة التمييز "الطائفي" .. توصّل القميش إلى قناعة بضرورة "العمل الجماعي" لـ 100 عاطل جامعي من خرّيجي "التربية الرياضية" تحوّلوا في العام 2010م إلى 250.
لجنة العاطلين
وفي مطلع العام 2008م، أسس القميش بمعية بعض زملائه العاطلين الجامعيين "لجنة عاطلي التربية الرياضية"، وأصبح رئيسها، وبعد أشهر وبالتحديد في سبتمبر من العام ذاته، تحولت اللجنة إلى "لجنة العاطلين الجامعيين"، وانضم إليها ممثلون عن كل التخصصات، وأصبح القميش أيضاً رئيسها، وكان الأنشط فيها، والأبرز والأكثر حضوراً في كل الفعاليات بشهادة زملائه.
سنة كاملة من البيانات والعرائض ولقاءات المسؤولين لم تجد نفعاً، لتبدأ اللجنة في العام 2009م سلسلة اعتصاماتها الأسبوعية أمام مقر وزارة التربية والتعليم، بدأت الاعتصامات منذ التاسع عشر من فبراير واستمرّت حتى تجاوز عددها الأربعون اعتصاماً أسبوعياً أمام تلك الوزارة، بعضها كان في عزّ صيف البحرين حيث درجة الحرارة تبلغ الخمسين، دون أن يرفّ جفن لأي مسؤول منهم، سوى أن مرّة واحدة فقط خرج موظف العلاقات العامّة بالوزارة وطلب من المعتصمين تسليمه رسالة بشأن مطالبهم، مسجلاً بذلك أسخف تعامل لا إنساني من وزارته مع البشر.
استمرّ القميش بالحضور الفاعل في تلك الاعتصامات رغم قلّة العدد، ورغم اضطراره للالتحاق بعمل مؤقّت يخفف من وطأة البطالة التي تأكل سني عمره، حيث عمل في إحدى شركات المقاولات "شركة كاظم الدرازي"، بوظيفة "حارس أمن".
خرّيجون بلا عمل
وفي العام 2010، التحق بلجنة أطلقت على نفسها "خرّيجون بلا عمل"، ليصبح عضواً ناشطاً فيها، قامت اللجنة بتحركات نوعية على صعيد بطالة "الجامعيين"، كان خلالها القميش المحرّض والمنفّذ والمتفاعل الأكبر مع تلك الفعاليات.
تقول رئيسة خرّيجون بلا عمل إيمان الحبيشي " كان هاني ومعه خيرة من شباب بلدنا حاضرا دائما .. أول الواصلين .. أول المبادرين .. توقيع عريضة .. مسيرة .. لقاء بشخصيات .. حضور اجتماعات .. وإضراب"، وتضيف "كنت مسافرة، وحين عدت تفاجأت بهاني القميش مع مجموعة شباب قد أعلنوا إضرابا عن الطعام أمام مبنى ديوان الخدمة المدنية بهدف الضغط من أجل توظيفهم"، كان ذلك في الثامن والعشرين من يوليو 2010.
لم يتزحزح القميش من أمام الديوان إلاّ حين أخذته سيارة الإسعاف للمستشفى في اليوم الرابع من الإضراب إثر سقوطه مغشياً عليه.
استمرّ القميش في تحركاته، حتى جاء يوم الثالث عشر من فبراير "قبل يوم واحد من انطلاق الثورة البحرينية"، وقف هاني القميش أمام المرفأ المالي حاملاً لافتة تطالب بتوظيف العاطلين الجامعيين، لتباغته بعد لحظات سيارة مدنية لعسكريين بملابس مدنية، أدخلوه بالقوة إلى السيارة، انتزعوا لافتته، ورموه في مكان آخر مع سيل من الشتائم والإهانات والتهديد بالاعتقال.
هاني مازال الآن يرفع كفّه بمعيّة الآلاف الذين احتشدوا لتشييع جاره سيد هاشم سيد سعيد، إنه اليوم الأوّل من السنة الجديدة 2012، صرخات وبكاء وآهات شكوى، تتعانق من صيحات غضب، تباغتها طلقات المسيّل والمطاط والقنابل الصوتية والأسياخ الحديدية وكل ما في جعبة خائف مذعور من تلك الحناجر الملتهبة.
هنا يقرّر القميش العودة إلى منزله بسلام، إذ بانتظاره طفله "هادي" الذي غاب عنه أسابيع طويلة .. سيذهب سريعاً ويغلق شقوق الجدران وفتحات الأبواب والنوافذ، لكي لا تتسرب الغازات الخانقة لـ "هادي"، فيضطّر مرّة ثانية للخروج لشراء دواء، فتصيبه لعنة تهمة أخرى قد تغيبه لسنوات.
ولكن الآلاف المؤلفة من العساكر والتي استعدّت للانقضاض ستكون أسرع منه، وأثناء دخوله إلى الشارع رقم 1 المؤدي إلى الإسكان بسترة وفق ما تروي الشاهدة زينب على موقعها بتويتر، ستباغته والمجموعة التي كان يمشي معها فرقة راجلة من العسكر، أمطرتهم بالطلقات .. "رأيت المصاب بأم عيني يسقط، وأنا التي صرخت بأن شابا سقط شيلوه حيث كان الطلق قويا فوق رؤوسنا" قالت زينب.
سرعان ما انتشرت صور جريح سترة على مواقع التواصل الاجتماعي، تظهر إحدى تلك الصور دماءً غزيرة كانت تنزف من رأسه الذي لُفّ بقطعة قماش، تضاربت الأنباء بشأن وضعه الصحّي، كان يزيد من ذلك التضارب صعوبة الوصول إلى الجريح بعد أن نُقل إلى مستشفى السلمانية. والداه لم يستطيعا الدخول عليه إلاّ بعد شجار مع قوات الأمن التي كانت تقف على باب غرفته في المستشفى.
كسر الجمجمة
ريم خلف، المحامية التي دافعت في المحكمة عن موكلها هاني القميش، والذي حُكم في أكتوبر بالسجن لسنة كاملة بتهمة التجمهر، خُففت في الاستئناف إلى 4 أشهر قضاها كاملة، حرصت على التواجد في المستشفى منذ اللحظات الأولى، كتبت على صفحتها في تويتر "نتيجة أشعة المصاب هاني القميش تفيد بكسر في الجمجمة وقاع العين وسوف تجرى له عملية في جمجمته بعد قليل"، وعادت لتكتب بعد لحظات "لا يوجد طبيب يجري لهاني العملية لأن المختصين جميعهم موقوفين عن العمل"، كانت تقصد بذلك الاستشاريين الكبار المفصولين تعسفاً عن العمل بسبب مواقفهم السياسية كاختصاصيي جراحة المخ د.طه الدرازي ود.نبيل حميد، أو اختصاصيي العناية المركزة مثل د.حسن التوبلاني ود.نهاد الشيراوي.
حتى الآن، القميش مازال تحت التخدير، أجريت له عملية لوقف نزيف الدم، ولكن لم تعرف نتائجها، آخر ما كتبته محاميته ريم خلف صباح اليوم "يرقد المصاب هاني في جناح 66 بدلاً من قسم العناية القصوى لعدم وجود سرير، ومناعته جداً ضعيفة، وقد تسوء حالته".
يصلّي البحرينيون اليوم من اجل أن ينهض القميش، من أجل أن ينهض ويعود إلى زوجته وابنه، من أجل أن يعود إلى شركة المقاولات التي يعمل فيها علّه يتمكّن من استرداد وظيفته السابقة فيعيل عائلته التي بقيت بلا معيل أربعة أشهر، ومن أجل أن يعود إلى لجنته "العاطلين الجامعيين" ليواصل مشوار نضاله في المطالبة بحقّه في الحصول على الوظيفة اللائقة.
بقي أن نشير إلى أن القميش هو واحد من 5 آلاف عاطل جامعي مسجّل في وزارة العمل، وآلاف الجامعيين الآخرين الذين يعملون في شركات المقاولات والقطاع الخاص في وظائف دنيا لا تتناسب مع مؤهلاتهم الأكاديمية.
المصدر: مرآة البحرين