10 مايو، 2011

بين ثورات القرن الماضي وحركات التغيير المعاصرة

بسم الله الرحمن الرحيم
 
بدراسة فاحصة للثورات والحركات التغييرية خلال القرن المنصرم في مختلف بقاع العالم نجد أن الكثير من تلك الثورات والحركات ، إن لم تكن أكثرها ، سقطت بعد نجاحها في مستنقع الديكتاتورية والإستبداد من جديد ، فهي رفعت شعار تحرير الشعب من إستبداد نظام قائم ، وقدم الشعب الضحايا والقرابين من أجل تحقيق هذا الشعار ، ولكن الناس وجدوا أنفسهم بعد برهة من الزمن قد تورطوا بديكتاتورية جديدة كالديكتاتورية السابقة ، أو أسوأ منها في بعض الأحيان.

والسؤال الكبير هنا: لماذا؟

وفي زمننا هذا ، حيث إنطلقت من جديد حركات الثورة والتغيير في عالمنا العربي ، وقد تمتد إلى بلاد أخرى أبعد من بلاد العرب ، نجد من الضروري البحث عن جواب هذا السؤال الكبير.

ورغم إن الإجابة تحتاج إلى دراسة مفصلة ومعمقة لتلك الثورات والحركات ، إلا إننا بإمكاننا تلخيص الإجابة في نقطة محورية وأساسية هي التي أدت إلى إنتكاس بعض أو أكثر تلك الثورات إلى مستنقع الديكتاتورية والإستبداد والفردية والأنظمة الشمولية.

تلك النقطة هي أن تلك الثورات والحركات إنطلقت تحت قيادة فئات إصطبغت بصبغة حزبية ضيقة ، ولونت نفسها بأشكال وألوان خاصة ، وحددت تقرير المصير في إطار عدد محدود من الأفراد. وعندما إنتصرت الشعوب بتضحياتها تربع هؤلاء الأفراد بحزبهم المعين سلفا ، وبصبغتهم المحددة مسبقا، وبأشكالهم المرسومة من ذي قبل ، تربعوا على عروش الحكم ، وإحتلوا قصور السابقين ، وإمتطوا سياراتهم الفارهة ،وطاروا بطائراتهم الخاصة التي إشتريت بنتاج عرق ودماء الناس الضعفاء المغلوب على أمرهم.

ورغم إن هؤلاء القادة الجدد كانوا يريدون في الوهلة الأولى السير مع الشعب في طريق واحد وبإتجاه وهدف مشترك ، إلا أن الأطر الحزبية الضيقة ، والأفكار الأنانية المحدودة جدا ، والخطط الذاتية المقيتة ، غيرت شيئا فشيئا من أخلاقيات القادة الجدد ، وتوجهت بهم نفس المنحى الذي سار فيه السابقون،فأخذوا بعدم الإستماع للرأي الآخر ، ثم بادروا لإسكاته ، ثم قاموا بخنقه ، ثم أودعوا صاحب الرأي في السجن، وأخيرا علقوه على المشنقة بإسم الثورة والشعب وهم أبرياء من ذلك.

وهكذا أصبحت الحرية تعني حرية تأييد الحزب الحاكم ، وحرية التصفيق للقيادة الجديدة ، وحرية الصحافة الموالية ، وحرية المظاهرات من أجل التسبيح بحمد الحاكم.

أما حرية الرأي والمعتقد والصحافة وتشكيل الأحزاب والجمعيات وحرية المظاهرات المعارضة لمفاسد الحكم والحاكم .. فقد وئدت إلى غير رجعة.

ولا نريد التفصيل أكثر من هذا الآن ، بل نلخص القول إن تلك الحركات والثورات إنتهت إلى تغيير أنظمة فاسدة مستبدة ، بأنظمة فاسدة مستبدة أخرى ، ولكن بشعارات وبيارق ومظاهر أخرى. أما الشعب فأقصي مرة أخرى إلى الهامش ، وأعطيت لهم مسؤولية واحدة فقط وهي : التصفيق للحاكم الجديد.

أما الثورات وحركات التغيير والإصلاح الجديدة في عالمنا العربي ، فقد إنطلقت بشكل يختلف جذريا عن تلك السابقة التي أشرنا إليها.

إنطلقت بدون محوريات حزبية ، بل بهوية واحدة هي الشعب والشعب فقط .. ذلك الشعب غير المنتمي لا لحزب السلطة ولا لأحزاب المعارضة الشكلية التي كانت أغلبها تسترزق من وراء المعارضة ، وتتحرك في واد ، بينما الشعب في واد آخر .. وغالبا ما كانت هذه الأحزاب والجمعيات والمعارضة الرسمية تشكل الوجه الآخر لعملة السلطة المستبدة ، ولذلك وجدت نفسها تلهث راكضة وراء جماهير ساحات التغيير دون أن تستطيع اللحاق بها ، فقد فاتها القطار ولم يعد الجماهير تلك الأغنام التي يقودها أصحاب الفلل الضخمة ، والسيارات الفارهة ، واللاجئون في بلاد الغرب والشرق بأربطتهم الحريرية المنمقة..

هذه الحركات والثورات الجماهيرية هي من نوع جديد .. لا تسمي نفسها بإسم حزبي ، بل بإسم تاريخ الإنطلاق ضد الإستبداد أو مكان الإنطلاق للمطالبة بالحرية فإسم (ثورة شباب تونس) (شباب ميدان التحرير) و(ثورة 25 يناير) و(ثورة الغضب) و(ثورة شباب 14 فبراير) و(شباب ميدان اللؤلؤة) و(ثورة ساحات التغيير في اليمن) و(تجمع شباب الثورة اليمني).

فمن الإسم يكتفون بتاريخ الإنطلاق ، لأنهم يريدون تغيير وجه التاريخ ، لم يختاروا إسما حزبيا ضيقا لأنهم سقموا هذه الطريقة في العمل ، بل نجد من أبرز معالم هذه الثورات أن الجماهير ترفع علم الدولة نفسه دون رفع أعلام جديدة وشعارات حزبية خاصة ، وهذا يعني أن الدولة هي الشعب ، والشعب هو الدولة ، أما الحكومات فهي ليست مالكة الحكم والدولة، بل عليها أن تكون خادمة العلم والشعب والدولة، فإذا أخصلت في الخدمة فأهلا وسهلا بها ،وإذا خانت الأمانة فالشعب يطالب بإسقاطها ، وهي ساقطة لا محالة..

من هنا فإن الشعوب المتحركة دون أطر حزبية ودون قيادات معروفة من ذوي الأربطة الحريرية الذين أعتادوا على تقاسم نعم الله على الشعوب مع أصحاب السلطة والثروة ، إن هذه الشعوب تريد هذه المرة تغييرا حقيقيا وليس شكليا ، وإذا ما وفقت في إسقاط الأنظمة الفاسدة – كما نجحت في تونس ومصر ، وهي في طريق النجاح في ليبيا واليمن والبحرين ، والحبل على الجرار..... – لا تملك أجهزة وقيادات جاهزة مسبقا لرفعها على العروش القائمة بعد سقوط الراكب السابق ، بل تريد أن ترى صناديق الإقتراع الحر هي التي تقرر من ، وكيف يحكم البلاد وترى حرية التعبير الصادقة هي التي تفرز الصالح من غيره، وهي التي تدل الجماهير على أصحاب الضمائر الحية ، والأفكار النيرة ، والأهداف الخيرة، لتسلمهم أزمة الأمور .. ثم تجعل الحكم مداولة بين من يختاره الشعب كل سنوات أربع ، ويكون الصعود للأجدر والأكفأ والأكثر إخلاصا.

هذا هو ما تريده شعوبنا الآن .. وهذا هو الإصلاح الحقيقي والتغيير الجذري في البلاد. وأكبر خطر يهدد هذه الحركات والثورات المباركة ، هو التوجهات التمزيقية ، والنعرات الذاتية ، والتحركات الأنانية والحزبية الضيقة. لقد آن الأوان أن نبحث عن مصائرنا في الوحدة والتعاون والتكاتف عن صدق وأمانة وإخلاص. أما أن يبدأ البعض – منذ الآن – ونحن لا زلنا نقدم القرابين والضحايا في ميادين التحرير ، وساحات التغيير ، وميدان اللؤلؤة (ميدان الشهداء الذي تم هدمه وتجريفه) ،بالتفكير في التحزب ، وتشكيل لجان قيادية من هذا وهذا فقط ، وإقصاء هذا وذاك ، وإحتكار الحديث بإسم الشعب ، وطرح نفسه وكأنه خالق الثورة وموجد التغيير ، إن هذه التوجهات هي من أخطر ما يهدد حركات التغيير والثورة، وهي تصب في خانة الأنظمة الفاسدة التي حتى لو سقطت فإن هذا النفس الحزبي الإنفرادي الإقصائي سوف يلقي بالبلاد في مستنقع إستبداد جديد ينتعش فيه بقايا وحثالات الأنظمة السابقة ، ويكون الخاسر الأكبر فيه هو الشعب، والضائع الأبرز هو دماء الضحايا والشهداء الذين لم يرخصوا دماءهم إلا لكي يسقط أشجار الحرية والكرامة في بلادهم ،ويهبوا شعوبهم حياة حرة كريمة نزيهة بعيدة عن أي تفرد بالسلطة ،وأي ذاتية وأنانية في التعامل مع الأهداف السامية للجماهير.

وعلى الذين بدؤوا يفكرون في جني ثمار الثورات وحركات التغيير لمصلحة سلالهم الحزبية والشخصية ، وخاصة في البحرين واليمن ، فعليهم أن يعرفوا إن الجماهير سوف تتجاوزهم ، وسوف تلقي بهم في صندوق المهملات المجاور لمزبلة النفايات التي يلقي فيها بالحكام والمستبدين.
 
أنصار ثورة 14 فبراير في البحرين
البحرين – المنامة - 10 أيار/ مايو 2011م
6 جمادى الثاني 1432هجري

ليست هناك تعليقات: